تحسين الصحة النفسية من خلال الغذاء السليم، هل هو ممكن؟

على مرّ التاريخ لجأ الأطباء والمختصون إلى علاج الاضطرابات النفسية بالأدوية، والتعديل السلوكي، والاستشارة، أمّا في يومنا هذا وإلى جانب هذه الطرق المتعارف عليها للعلاج، استُحدث علمٌ يعرف بالطب النفسي التغذوي (Nutritional psychiatry)، والذي يُعنى بتحسين الصحة النفسية من خلال الغذاء وتغيير العادات الصحية. فما الذي يكمن وراء هذا العلم؟ وكيف يؤثر الغذاء في صحتنا النفسية؟

 

علاقة الغذاء بالصحة النفسية

من المعروف أنّ الغذاء يؤثر في صحة الجسم، وأنّ ما نتناوله يؤثر في وظائفه المختلفة، إمّا بالنفع أو الضرر. والأمر سيان فيما يتعلق بالصحة النفسية والدماغ، إذ عند التفكير في الدماغ بكونه أحد أجزاء الجسم فمن الطبيعي إذن أنّ الطعام يؤثر أيضًا في وظائفه، وبالتالي ينعكس ذلك على الصحة النفسية. أمّا عن سبب تأثر أدمغتنا بما نأكله فذلك يعود إلى الارتباط الوثيق بين الجهاز الهضمي والدماغ.

 

إذ يحتوي الجهاز الهضمي على عدد لا حصر له من الميكروبات التي تؤدي العديد من الوظائف في الجسم، ومن ضمنها تنظيم النواقل العصبية -كالسيروتونين المرتبط بالمزاج، والموجود العديد منها في الأمعاء التي ترسل الإشارات الكيميائية إلى الدماغ المسؤولة عن النوم، و الشعور بالجوع، والألم، إضافةً إلى المشاعر والمزاج. بمعنى آخر قد يؤثر الغذاء الذي نتناوله في صحة هذه الميكروبات، مما يؤدي إلى حدوث خلل في توازنها ووظائفها، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث اضطرابات نفسية مختلفة. من جهة أخرى، قد يفسر هذا الارتباط بين الدماغ والأمعاء سبب الأعراض الجانبية للأدوية المضادة للاكتئاب، والتي يُعد الغثيان، والإسهال واضطرابات الجهاز الهضمي أكثرها شيوعًا.

النظام الغذائي الملائم للمشاكل النفسية

يُعد الاكتئاب والقلق من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا حول العالم. وفقًا لمنظمة الصحة العالمية فإنّ الاكتئاب قد يصبح أحد أكبر المخاوف الصحية بحلول عام 2030. ولذلك تجرى العديد من الأبحاث باستمرار بغية الوصول إلى حلول جديدة لتقليل هذه المشاكل الصحية النفسية بدلًا من علاجها بالأدوية، ومن هنا استُحدث الطب النفسي التغذوي.

 

لكن يبقى السؤال، هل يمكن للغذاء الصحي والمتوازن أن يمنع حدوث المشاكل الصحية في المقام الأول؟ حقيقةً، تُشير مراجعة شملت 21 دراسة من 10 دول مختلفة إلى أنّ اتباع نظام غذائي صحي ومتوازن، مرتكز على تناول الفواكه والخضروات، والأسماك، وزيت الزيتون، والحبوب الكاملة، ومنتجات الألبان قليلة الدسم، إلى جانب مضادات الأكسدة، وتقليل تناول اللحوم في المقابل، ارتبط بتقليل خطر الإصابة بالاكتئاب. بينما اتباع نظام غذائي غني باللحوم الحمراء واللحوم المصنعة، والحلويات، والحبوب المكررة، والبطاطا، ومنتجات الألبان كاملة الدسم، إضافةً إلى قلة استهلاك الخضروات والفواكه، ارتبط بزيادة خطر الإصابة بالاكتئاب بشكل ملحوظ. 

 

ولاحظ الباحثون أنّ زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب نتيجة الاختيارات السيئة للغذاء قد تحدث لمختلف الفئات العمرية، ككبار السن، والأطفال، والمراهقين. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ هذه النتائج لا تجزم السبب والنتيجة، وذلك لصعوبة دقة المعطيات، إذ يعتمد الباحثون على المعلومات التي يقدمها المشاركين في الدراسة، والتي تحتمل نسبة خطأ إلى حد ما.

 

النظام الغذائي الملائم لتحسين المزاج والحالة النفسية

عندما يتعلّق الأمر بتحسين المزاج والحالة النفسية فإنّ المعادلة هنا بسيطة؛ تكمن باتباع نظام غذائي صحي ومتوازن، يحتوي على مجموعة العناصر الغذائية الأساسية التي يحتاجها الجسم، وذلك بتناول الخضروات والفواكه، واللحوم قليلة الدهون، والبقوليات، والمكسرات، والبذور، والدهون الصحية مثل زيت الزيتون والأفوكادو، إضافةً إلى الأسماك والدواجن، وشرب كميات كافية من الماء. إذ وجد الباحثون علاقة تربط النظام الغذائي الغني بالعناصر الغذائية بقلّة الشعور بالتوتر والقلق والعصبية، وزيادة الشعور بالرضا. ما يعني أنّ ارتفاع جودة الطعام يؤدي إلى زيادة الإحساس بالمشاعر الجيدة.

النظام الغذائي الملائم للتخفيف من أعراض القلق

يرى الباحثون أنّ ارتفاع معدل القلق مرتبط بارتفاع استهلاك الأطعمة الغنية بالدهون المشبعة، والسكريات، والكافيين، وقلة استهلاك الفواكه والخضروات، إذ إنّ هذه الأطعمة تؤدي إلى ارتفاع مستوى هرمون الكورتيزول (Cortisol) أو ما يُعرف بهرمون التوتر. لذلك لتقليل أعراض القلق والتوتر، من المهم تقليل تناول هذه الأطعمة واستبدالها بالأطعمة التي تقلل من التوتر والالتهاب في الجسم، والتي تشمل:

  • الدهون الصحية غير المشبعة.
  • الأطعمة الغنية بالألياف الغذائية، مثل الخضروات، والفواكه، والحبوب الكاملة.
  • والأطعم المخمّرة التي تحتوي على البكتيريا النافعة، مثل لبن الكفير، واللبن اليوناني، والخضروات المخللة.
  • الأطعمة الغنية بفيتامينات ب مثل البيض والدجاج، ولحوم الأعضاء مثل الكبدة.
  • الأطعمة الغنية بالأوميغا-3 مثل الأسماك، والأفوكادو، وزيت الزيتون، وبذور الشيا.
  • الأطعمة الغنية بالمغنيسيوم مثل الموز، والبروكلي، والشوكولاتة الداكنة.
  • الأطعمة الغنية بالبروتينات مثل الأسماك، والبقوليات، والمكسرات، والكينوا.

 

النظام الغذائي الملائم للتقليل من أعراض الاكتئاب

ذكرنا في السابق وجود علاقة بين الخيارات الغذائية، وصحة الجهاز الهضمي وزيادة خطر الاكتئاب، والتي لوحظ أنها تقلّ بنسبة 10% عند اتباع النظام الغذائي الملائم وهو النظام الغذائي المتوسطي (The Mediterranean diet) أو ما يعرف بحمية البحر الأبيض المتوسط. وتتمثل هذه الحمية في الحد من استهلاك الأطعمة المصنعة والمقلية، والحلويات والمخبوزات، والمشروبات السكرية، وزيادة استهلاك الأطعمة الآتية:

  • الفواكه والخضروات.
  • وزيت الزيتون.
  • البقوليات مثل الفول، والحمص، والعدس.
  • والأسماك.
  • المكسرات مثل اللوز والجوز.
  • منتجات الألبان قليلة الدسم.

 

نصائح تغذوية عامّة لتحسين الصحة النفسية

عند الإصابة بأحد المشاكل النفسية عادةً ما يلجأ المصاب إلى المختصين لبناء خطة علاج متكاملة تتلائم مع حالته الصحية، لكن أحيانًا، قد يرغب البعض بإجراء تعديلات على نظامهم الغذائي، والسير في الطريق الصحيح فيما يتعلّق بالاختيارات الغذائية بهدف التخفيف من المشاكل النفسية والعاطفية وتحسين المزاج، كما قد يلجأ الأشخاص الأصحاء لإجراء هذه التغيرات في العادات الغذائية من باب الوقاية. وقد يقع البعض في الحيرة فيما يتعلّق بالخطوات الواجب اتباعها لتحقيق أقصى استفادة. لذلك نلّخص فيما يأتي مجموعة من النصائح التي تساعد على تحسين العادات الغذائية واتباع عادات صحية أفضل:

  • التركيز على العناصر الغذائية الأساسية: إذ يؤثر نقص بعض الفيتامينات والمعادن في الجسم في الصحة النفسية، لذا من المهم الحصول على حاجة الجسم منها، ومن ضمن هذه المغذيات الفولات أو حمض الفوليك، والأوميغا-3، والمغنيسيوم، والحديد، والزنك، وفيتامينات ب، وفيتامين أ، وج.
  • الحرص على تناول البروبيوتيك والبريبيوتيك: إذ تساعد هذه المغذيات في الحفاظ على توازن واستقرار الوسط في الأمعاء، كما أنّ لها دور في استجابة الجسم لعوامل التوتر. ويمكن الحصول عليها من الأطعمة المخمرة، والثوم، والشوفان.
  • التنويع في اختيار الأطعمة: وذلك بهدف الحصول على كافة العناصر الغذائية الضرورية، مثل تناول الفواكه والخضروات من مجموعات وألوان مختلفة، إذ كلّ منها يمدّ الجسم بمجموعة مختلفة من العناصر الغذائية والمركبات النباتية الضرورية.
  • تناول الحبوب الكاملة: مثل الشوفان، والأرز،و القمح الكامل، فهي تحتوي على الألياف الغذائية والتي يُعتقد أنّ زيادة استهلاكها يقلل من خطر الإصابة بالتوتر والقلق والاكتئاب.

 

 

لا شكّ أننا نولي اهتمامًا كبيرًا لصحة أجسادنا، لكن قليلًا منا من يولي هذا القدر من الاهتمام للصحة النفسية والذهنية. إذ إنها لا تقلّ أهمية عن صحة الجسم. وكما يؤثر الغذاء في وظائف الجسم فإنه يؤثر في وظائف الدماغ، وما نأكله يؤثر في مشاعرنا، ومزاجنا، ما يعني أنه من الممكن تحسين الصحة النفسية من خلال الغذاء السليم، وذلك من خلال تناول الأطعمة الصحية الغنية بالعناصر الغذائية، والتنويع في اختيار الأغذية، والابتعاد عن الأطعمة المصنعة والسكريات والدهون لتجنب خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق وغيرها من المشاكل النفسية.